تساءل الكاتب السعودي منصور النقيدان في مقال له بجريدة «الاتحاد»، عمّا إذا كان هناك «إخوان» سعوديون في المملكة العربية السعودية؟، مشيراً إلى أن «التعاطي الداخلي مع إخوان السعودية، مبني على توصيفهم الذي لا يزال عائماً ومشوشاً»، ويضيف قائلاً: «إن التوصيف لا يمكن ضبطه، مما يدفع السعوديين للتعامل مع كل حالة على حدة»، ويذكر في مقاله، أن السعودية تتحالف الآن مع «الإصلاح» اليمني أي «الإخوان المسلمين» في اليمن، في ضرب وتقليص تمدد «الحوثيين»، إضافة إلى تحالفها مع «إخوان» العراق وسوريا! وفي هذا الإطار، يؤكد الكاتب، وهو الخبير في شؤون الإسلام الحركي في السعودية، وعلى دراية عميقة بالمؤسسة الدينية ورجالها وعلمائها وتأثيرها، على وجود «موالين ومنتسبين للجماعة الإخوانية» وأنهم «نشطون وأقوياء ونافذون» رغم الحملة الإعلامية ضدهم. ولا مجال للشك، في إدراك المؤسسة الأمنية السعودية، لخطورة «الإخوان»، في ظل استشراء التطرف والغلو والإرهاب «الجهادي»، وعبوره الحدود الجغرافية، وتحدث كاتب سعودي آخر وهو جمال خاشقجي في جريدة الحياة، قبل أيام، عن «الحالة الداعشية في السعودية، والتي تحظى بشعبية محترمة، على حد قوله، وبخاصة في وسائط الإعلام الاجتماعي، فضلاً عن وجود أكثر من خمسة آلاف مقاتل سعودي يقاتل في صفوف «داعش». لذلك، لم يكن مفاجئاً، أن يطالب خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، في خطاب له قبل أيام، «العلماء بترك الكسل، والتخلي عن الصمت، وإدانة الإرهاب»، وقد عنون الكاتب منصور النقيدان مقالاً آخر له «الملك يوبخ العلماء». نعرف أن هناك حاجة ماسة لصيانة الدين في أزمنة المتغيرات الجارفة، وندرك مدى ثقل «النخب الدينية» في بعض مجتمعات الجزيرة العربية والخليج، مقارنة بثقل «النخب المدنية»، وهو ثقل اشتركت عوامل تاريخية متعددة في توليده، وقد تكون عملية تعديل هذا الثقل معقدة وغير يسيرة، إلا أنها أضحت بكل المعايير الوطنية، قضية مفصلية تطال الحاضر والمستقبل، وتؤسس لمعادلات جديدة في إدارة المجتمعات، في ظل أوضاع متغيرة وحدود مشتعلة. في وطننا العربي، هناك من استحضر «الإمامة»، وهناك من استحضر «الخلافة»، وهناك من العلماء، من لا تتعدى مخالفتهم لـ«الدواعش»، سوى القول بأن المدعو «الخليفة البغدادي» (لا تتوافر فيه شروط الخلافة والبيعة)، وكأنما المطلوب هو «أمير للمؤمنين، لكن بشروط أفضل» ... فهل هناك مأساة فكرية وعقلية أكبر من ذلك؟ صمت كثيرون، ولم يقل أحد منهم، إن الخلافة ليست جزءاً من الدين، لكنهم «دفَّعوا» الدين ثمناً للتصنيف المذهبي، وسكتوا على إقحام الدين في مواجهة الدولة الوطنية بالقوة. في مقال منصور النقيدان الأول، ما يثير التساؤل، إن لم يكن القلق، وبخاصة حينما يتحدث عمّا أسماه «بصفقة» يعرضها «إخوان» السعودية، ويصف اللحظة، بأنها «لحظة مثالية للإخوان» لتقديم تنازلات، لتجميل وجوههم، وطرح أنفسهم حلفاء مناسبين للحكومة، وتشمل أبعاد الصفقة في أولاً التعاون لتحجيم رقعة تعاطف الشباب السعودي مع الإرهاب المسلح، وثانياً التحالف مع الحكومة ضد التمدد الشيعي والنفوذ الإيراني في المنطقة، وثالثاً ردع «الإخوان» عن التطاول على الإمارات وحكامها، والتحريض على سلمها الاجتماعي، وكل ذلك في مقابل «إطلاق العنان للإخوان» لممارسة دورهم القديم (!!) وممارسة أنشطتهم ضمن الحدود المتفق عليها، التي تضع في الاعتبار إرضاء مؤسسة الحكم، وعدم إحراجها مع الأشقاء والحلفاء». إن صح هذا التوجه، أو هذه الصفقة المفترضة، فإنها لا تعني سوى العودة إلى «المشروع الإخواني الأفغاني»، بكل أفكاره واختياراته وانتماءاته التي تستحوذ عليه والتي سلحته عن «هويته الجغرافية» التي اسمها وطن، ودولة وطنية. إن أية صفقات مع جماعة الإخوان، هنا أو هناك، نتائجها هي تدفق حمم براكين أخرى في المنطقة. وندائها دوماً، «مطلوب مهاجرين للجهاد» بدءاً من «خلافة» داعش، وتناسل كوارث جديدة، وسلالات طبيعية «لفقه داعش». إن البيئة الفكرية و«الدينية»، التي أثمرت الإسلام «الإخواني الأفغاني»، هي نفسها التي تتحفنا اليوم بـ«الجهاد» المقدس في سيناء، وبمخلوقات «داعشية» و«قاعدية»، بعد أن تراجع الديني والروحاني والأخلاقي، أمام القتل باسم الإسلام، وطالما بقيت هذه الثقافة، وهذه البيئة الفكرية والأيديولوجية، سيبقى الغلو المسلح، ويتعمق وجوده، وتتعدد أشكاله، ويتساوى هذا العنف الأعمى مع الصمت والسكوت عنه. ولنتذكر، أنه على هدي كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب، تأسست جماعات التكفير و«القاعدة» وملحقاتها ومتفرعاتها، وولدت شباباً غاضبين لا ينقصهم الحماس، بقدر ما ينقصهم الوعي والفقه الصحيح. على أيدي هؤلاء، تحول مفهوم الجهاد، من مفهوم إنساني وحضاري وروحي وعقلي، يخدم الحياة كقيمة في ذاتها، ويجاهد لترقيتها، إلى مفهوم الموت والقتل بحثاً عن «الشهادة» والفوز بالنعيم الأبدي. لقد سمح لجماعات «الإخوان»، في الجزيرة العربية والخليج، فضلاً عن مصر والأردن واليمن وغيرها، على مدى أكثر من خمسة عقود. للعمل الدعوي والسياسي والاجتماعي والتربوي والاقتصادي، وتحالفت هذه الجماعات مع أنظمة حكم متعددة، (حتى «إخوان» سوريا تحالفوا مع نظام صدام حسين)، ودخلت هذه الجماعات لعبة السياسة والبرلمانات والحكومات، ووظفت «التدين الشعبي» لأغراضها السياسية. وامتلكت عقلية «براجماتية»، وروَّجت الطفرة النفطية لهذا النوع من التصور للإسلام الحركي، ولشخصيات إرشادية تبليغية تملك جاذبية شعبية، لكنها اليوم انتهت إلى الصمت، أمام من اختطف الإسلام، وقدمه للعالم، بأنه دين التطرف والكراهية والقتل، وإذا ما تواصل هذا العنف الأعمى والسكوت الشيطاني عنه، فإن أجيالاً ستتوالد، لا تؤمن بغير العنف والقتل. لنعترف أن الوضع الراهن في وطننا العربي، يتسم بالارتباك الشديد، في جميع دوائر صنع القرار، وأن مجتمعاتنا عرضة لامتحانات صعبة، ومواجهة تحديات خطيرة، ويبدو الآن عالمنا العربي، في قائمة أكثر الدول ضعفاً وتفككاً وحروباً أهلية ونزوحاً وتهجيراً وعنفاً، ومن أكثر الأمم التي تنتشر فيها الجماعات الإسلامية المسلحة، بخطاباتها الدموية المتوحشة، وفي الوقت نفسه فإن هذا التفكك في بنية المجتمعات، ونسجيها الاجتماعي، أثر سلباً في أسس توازن القوى في الإقليم، ولنتذكر كيف اخترقت إيران وتركيا الوطن العربي، بحثاً عن موطئ قدم لهما، من خلال بوابتي فلسطين والدين، وجرى ما جرى، حيث دفعت فلسطين ثمناً من خلال إعادة تعريفها خارج «عروبتها» السياسية، ودفع الدين ثمناً من خلال التصنيف المذهبي. ثمة حاجة اليوم إلى منهجية مختلفة ومغايرة للتعامل مع هذه التحديات الهائلة، بحاجة أولاً إلى حوار على مستوى النخب السياسية والمثقفة ودوائر التفكير في المنطقة بدءاً من دائرة التحالف المرن القائم بين مصر والسعودية والإمارات، إذ لا يكفي أن يبقى الحوار والتواصل في الأطر الرسمية، ومن المفيد والحكمة أن يتم تفعيل الطريق الدبلوماسي الشعبي، لترسيخ وتقوية هذا التحالف، وإثرائه بالأفكار والرؤى والتواصل، بما يدفع الفتنة والتفكك ويحفظ السلم الأهلي، فضلاً عن البحث في كيفية صيانة الدين في أزمنة التغيير، والوقوف على مسببات وصولنا إلى مثل هذه الحالة المأزومة، وبخاصة دور «الذات» العربية، بثقافتها وتركيبها وتربوياتها ومكوناتها وأنساق قيمها. ثمة حاجة إلى تأسيس حوار مستدام، للتواصل وتبادل الرأي والحيلولة دون أن نقع في الخطأ من جديد. -------- د. يوسف الحسن كاتب إماراتي